📁 آخر الأخبار

الشيخ محمد بن الحبيب البوزيدي المستغانمي والتربية الصوفية

الشيخ الكامل
الشيخ الكامل

الشيخ البوزيدي، الصوفي الكامل:

ظهر صدق الشيخ البوزيدي في سلوك الطريق من خلال اختياره الهجرة لهذا الغرض رغم الأخطار التي كان يمكن مواجهتها ويظهر صدقه كذلك من خلال تصديقه للتأييدات الغيبية التي جاءته بمناسبة زيارته لضريح سيدي أبي مدين وحصوله على الإذن، وقد ظهرت ثمار صدقه بسرعة كبيرة بحيث أصبح من تلامذة سيدي محمد بن قدور الوكيلي الكركري النجباء بحيث حصل على الإذن بالتربية في حياة شيخه وكان يساعده في القيام بهذه المهمة، ما دفع بشيخه إلى التوصية له بالإشراف على زاويته بعد وفاته وتربية أبنائه ليكونوا متأهلين لخلافة أبيهم على زاويته.

يحكي صاحب الأنوار القدسية بعض من شهادات أستاذه سيدي محمد بن قدور: " ولما قرب انتقال الشيخ سيدي محمد بن قدور الوكيلي رضي الله عنه إلى جوار ربه كان يردد هاته الكلمات: أخذ البوزيدي القربة برباطها .. وهذه إشارة بأن سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي أخذ السر كله من شيخه، فأذن لبعض المريدين بالانصراف إلى أهلهم كأمثال سيدي الشيخ عبد القادر بن عدة البوعبدلي دفين غليزان بالجزائر وسيدي محمد بن مسعود من الغزوات وسيدي الشيخ الهبري دفين احفير بإقليم وجدة بالمغرب الأقصى" [1]

أخلاقه العرفانية:

أهم ما في التصوف والعرفان هو مجاهدة النفس وهي المعبر عنها في الأدبيات الصوفية الخطوة الواحدة والتي قد تتفصل وتصل إلىسبع مقامات وإلى مائة مقام أو ألف مقام وغيرها من الأرقام، هذه الخطوة هي وضع القدم على النفس، غذ المشهور أن بين العبد وربه خطوة وهي وطء النفس، وبعد ذلك لا يبقى إلا الله وقد يعبر عنها بالفناء، وفي هذا الجهاد نجد فنونا من المجاهدات تشترك في الهدف وهو الوصول وتختلف في بعض التفاصيل وهي التي يصطلح عليها بالسلوك، لأنه اشتهر بين الصوفية ان الطرائق إلى الله بعدد أنفس الخلائق، وخاصية جهاد النفس هي الترجمان عن صدق المريد في طلبه الوصول إلى ربه أو العلم بربه، لأن كما يقول الشيخ العلاوي: ""مطلب العارفين هو الوصول إلى الله لا غير، أي الوصول إلى العلم به بأنه هو الظاهر في العالم ظهورًا لا يمكن احتجابه كشفا وعيانا"[2].

كان الشيخ البوزيدي خارقا لعادات نفسه وهو ما انعكس في أفعاله بحيث الكل كان يشهد له بتواتر كراماته لأن كما هو مشهور عند الصوفية من لم يخرق عوائده لم تخرق له العادات، "وحاصل الأمر كانت أحواله خارقة للعادة قل أن توجد في غيره ومن جملتها كان يدخل السوق بنفسه ويشتري ما يحتاج إليه ويحمله كغيره حتى كنا نستثقل منه ذلك وتأباه نفوسنا لوجود البقية فينا في اول أمرنا إلى أن اطلعنا على حاله وسلمنا لأخلاقه من كل الوجوه وصار (ص 5) فعله عندنا أطيب من الشهد ... ويقول ليس لنا عدو غير أنفسنا وعندما انتقل لرحمة الله عليه تمام الرضا والرضوان لم يترك خلفه من قال فيه زورا ورأى فيه كبرا بل تاسف على فرقته الغني والفقير "[3]

ولم يسالم نفسه أو يهادنها حتى في طول طاعتها له وامتثالها أمر الله وهذا من مقامات العبودية إذ " كان يحذر رضي الله عنه من النفس ضاربا المثل بنفسسه ويقول: لا زالت تحدثني حيث سن الشباب أي بالمخالفة والعصيان، وأنا قد بلغت ثمانين عاما وإني لأرى الشيطان يحتال لمخادعتي كما يحتال السارق بالليل على صاحب الدار"[4]. كان هشوشا بشوشا دائما البشرى على وجهه قل أن تجده كاظم حريص على نفع المريد[5].

وبالجملة كانت أوقاته معمورة بما يقربه إلى الله عز وجل لا يذكر أحدا من الخلق في مجلسه بسوء ولا يتمنى ضررا لغيره حتى كأنه لم يكن له عدو البتة مع أنه يوجد من كان يبالغ في إذايته كما هي سنة الله في خلقه وقد كان يدعو الله بخير لمن انكر عليه ويصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويتواضع لمن دونه وكان من تواضعه لا يتميز عن غيره في مجلسه ولم يختص بمحل دون غيره، وقد خصصناه مرة وألزمناه مكانا في المسجد يعرف به فقال رضي الله عنه لعن الله الرجل المميز بين إخوانه.. وحاصل الأمر كانت أحواله خارقة للعادة قل أن توجد في غيره ومن جملتها كان يدخل السوق بنفسه ويشتري ما يحتاج إليه ويحمله كغيره حتى كنا نستثقل منه ذلك وتأباه نفوسنا لوجود البقية فينا في اول أمرنا إلى أن اطلعنا على حاله وسلمنا لأخلاقه من كل الوجوه وصار (ص 5) فعله عندنا أطيب من الشهد ... ويقول ليس لنا عدو غير أنفسنا وعندما انتقل لرحمة الله عليه تمام الرضا والرضوان لم يترك خلفه من قال فيه زورا ورأى فيه كبرا بل تاسف على فرقته الغني والفقير "[6]

سألت شيخنا سيدي محمد البوزيدي رحمة الله عليه عن البركة ما هي؟ فقال لي: هي القناعة، لأنها كنز لا يفنى. فمن كان له نصيب منها، كان لا يحتاج إلى أحد. وكان له رضي الله عنه حظ وافر منها، ومن العجب أنه لم يذكر لنا احتياجا مدة اجتماعنا معه، وكنا إذا ناولناه بعض الأطعمة أو الأشربة حسب الزمان، يقول: كنا عند سيدي محمد بن قدور رضي الله عنه، في بعض الأيام نأكل الحشيش ونشرب الماء من عين زورة ونفترش الحلفاء، وكان الفقراء يسمونها بالسندس الأخضر، ونسكن الغيران، وكان إذا بعثنا الشيخ، رحمة الله عليه لنأتي بنبات الأرض للمعاش، أنا ومن معي من الفقراء، فيأخذ الفقراء في تخيير النبات الذي يناسب الطبخ، وكنت أنا آخذ ما يحاذيني بدون أن اتشوف لما وراء ذلك، فأنكر علي الفقراء وقالوا: يوجد في العشب ما لا يصلح للأكل. فقال الشيخ: دعوا البوزيدي هو ناقة الله يأكل في ارض الله. وكنا في راحة وقناعة لم توجد لذتها"[7]

مشيخته

كان الشيخ البوزيدي يبشر بمشيخته ويصدر نفسه خصوصا بعد ما ظهرت آثار تربيته على المريدين أنا البحر الواسع أنا هو الخمار نسقي كل سامع كؤوس الأسرار

        فكن لي تابع ترفع عنك الأستار       يذهب عنك المانع تشاهد أنوار
        أنواره لامع ما فيه أغيار تصير             أنت الصادع تسقيهم اسرار
        كل قطب بارع صافي من الأكدار            فلي يبايع بالسر والإجهار
        كل غوث شايع واسع الأفكار                هو عبدي تابع قهار وجبار
        كل ولي خاضع لي بالإنكسار           حكمي عليه واقع بدون اختيار
        ومن لي ينازع رافض الإقرار      هو غير تابع السادات الأخيار"[8]

        ناداني من كل مكان اصدع وبشر الإخوان            بالقرب مع الأمان اللي يتبعك محبوب
        ناداني يا بوزيدي اصدع بشر عبادي              بالقرب والمزيد حاشا مريدك محجوب[9]

لأنه في بداية الإرشاد اكتفى بالخفاء وعدم إعلان الدعوة لأن العارفين بالله لا يتحركون خارج الإذن الإلهي والمحمدي، فهم إن لم يتلقوا إذنا بالظهور لا يفعلون، لأنهم عاهدوا على أن يضبطوا حركاتهم وسكناتهم على الإذن الإلهي، وكانت شهرة الشيخ البوزيدي قد ظهرت من غير التباس عندما انظم إليه كبار الأتباع وخصوصا الشيوخ الأربعة، وهم الشيخ أحمد بن مصطفى العلاوي، والشيخ بن عودة بن سليمان، والشيخ أحمد بن اسماعين المستغانمي، والشيخ بن يلس، فيذكر الشيخ العلاوي في برهان الخصوصية هذه الشهادة وقد رآه في رؤية : " فقال لي إن الطريقة لها أربعة قوائم وإذا ذهبت أنت لا شك تسقط لأنها لا تقوم على ثلاثة قوائم وأشار بإصبعه الثلاث فقلت له يا سيدي إن كنت أنا قائمة من تلك القوائم فإنا كذلك حيثما ذهبت وإن جميع ما عندي تصرفه في الطريق فسكت ولم يجاوبني ثم سألته عن القوائم الأربع من هم فذكر لي اثنين السيد الحاج بن عودة بن سليمان والسيد أحمد بن اسماعيل"[10]، "يضاف إلى هؤلاء الشيخ محمد بن يلس الذي عمت بفضله الطريقة الدرقاوية بلاد الشام: "وأشعت الدعوة البوزيدية بأنوارها الشرق الأوسط بقدوة سيدي محمد بن يلس رحمه الله تعالى الذي أخذ الطريق عن الشيخ سيدي محمد الهبري ثم أخذ عن الشيخ سيدي محمد بن الحبيب البوزيدي الذي اذن له في المشيخة والدعوة إلى الله وذلك ما أقره الشيخ سيدي محمد بن يلس في قوله:

        بالهبري تم المراد         رقاني إلى الأوراد
        ومقام الإرشاد من     البوزيدي مأخوذ" [11]

وقد بلغ قبل وفاته عدد الشيوخ في مقام الدلالة على الله وتلقين الإسم الأعظم حوالي أربعين شيخا لكنهم لم يتصدروا لذلك إلا الشيخ العلاوي الذي عين بعده خليفة عنه، وهؤلاء السالكين وإن لم يتصدروا لتلقين الاسم الأعظم ليس لمانع ذاتي لأنهم كما يذكر الشيخ العلاوي كان لهم الاستعداد لذلك لكنهم لم يفعلوا، " فإنه سلك على يده نحو الأربعين رجلا منهم من انتقل في حياته ومنهم من تخلف بعده حسب ما في علمنا ولم يتصدر منهم أحد للإرشاد إلا الكاتب لكن فيهم من هو على استعداد وفي ذلك ما يدل على خصوصيته حيث ظهر الفتح على يديه لما توعرت المسالك عند غيره"[12].

كما سبق ذكره أن الشيخ البوزيدي لم يتصدر فقط لإرشاد بني جنسه بل كان من مريديه الجان وقد ذكر تلميذه الشيخ العلاوي هذه الشهادة إظهارا لخصوصيته في التربية والدلالة على الله عز وجل: "ومن خصوصيته أيضا أن الجان كان يتبرك به ويعتمده ويأخذ عنه الطريق وقد أخبرنا بذلك وبمن أخذ عنه وبأسامي البعض وبما وقع له في بعض الأحيان معهم ومن جملة ذلك قال رضي الله عنه كنت مرة في سياحة بالمغرب الأقصى في أرض قفر فدخل علي وقت العصر فقمت وأذنت ثم قمت للصلاة وعندما فرغت الفت خلفي وإذا بأناس كثيرة يصلون من وراءي وكلهم تسبح مثل تسبيحي فأوجست منهم خيفة وعلمت أن القوم ليس من جنسي فتقدم لي أحدهم وكنت أعرفه فقال لي لا تتروع يا سيدي محمد إن القوم من إخوانك يريدون الاستماع من كلامك فعند ذلك تكلمت في الطريق بما فتح الله علي وبعد ساعة تفرق الجميع وعندما ذهبت للشيخ رضي الله عنه أخبرته بذلك فقال لي لنا من جنس الجان أتباع كثيرة ثم صار يعرفني بهم وبأسمائهم حال اجتماعهم مع الفقراء عند الذكر فكنت أعرفهم "[13]

تمتد مشيخة سيدي محمد البوزيدي إلى رسول الله كما هو شأن كل مربي مأذون، لأن المشيخة شرط التربية والنادر القليل من يفلح في السلوك بدون شيخ بل يكاد يكون مسحيلا، لأن المانع من الجزم في هذا الموضوع هو فضل الله وعلمه الذي لا يستطيع أي شيخ وأي عارف أن يخترقه أو يعارضه، وغلا فإن اعتقاد أهل التصوف أن لا سلوك غلا على يد شيخ تلقى عن شيخ وهكذا صعودا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن شرط السلوك حياة الشيخ لا وفاته، لأن الشيخ المتوفي لا نفع منه، وبها الاعتبار تطول السلسلة الصوفية للمربين مع تقدم الزمان، والشيخ البوزيدي درقاوي وشاذلي الطريقة لذا فإن سلسسلته هي نفسها سلسلة الشيوخ الدرقاوة قبله ابتداء بأستاذه سيدي محمد بن قدور الوكيلي الكركري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

        فهذه سلسلة طريقتي            وما لها من أركان التحقيق
        ذكرتها بحسب الترقي          بإسناد الرجال أهل الشوق
        أولهم شيخنا الكامل                    محمد بن قدور الوكيل
        على يديه كان لي وصالي       وشربت من كؤوس الجمال
        حتى وصلت غرف الأمان               منال أشياخ التداني
        صار فياضه مني يسري         ومن عنصره مياه تجري
        بلغني الفنا مع البقا             ونوره مني ملأ الآفاق[14]

الشريعة والحقيقة:

الشريعة والحقيقة
الشريعة والحقيقة

لا يستقيم حال العارف بالله إلا إذا كان متحققا بالاعتدال في العمل والمعاملة بين الشريعة والحقيقة وقليل من العارفين من تحققوا بهذا الميزان، والحاصل على هذا المقام هو البرزخ الحقيقي وهو الإنسان المحمدي الكامل الذي لا يضيع حظوظ الكمال ظاهرا وباطنا، ومما لا شك فيه أن الشيخ البوزيدي كان حاصلا على هذا المقام، ويشهد له بذلك موقعه الاجتماعي الذي كان يحظى به بحيث لم يلق أي اعتراض من أهل الدين واستطاع أن يغطي على سره فترة طويلة من حياته خصوصا بعد أن المس بعض الاعتراضات على علم القوم من قبل بعض العلماء في مسغانم، وهذا النوع من إخفاء الخصوصية يسمى في الأدبيات الصوفية بالخمول، وهو عدم الشهرة والتميز، ولعل سبب اختيار الشيخ البوزيدي لهذا النوع من السلوك لما لقيه من المعارضة والإذاية بعد عودته من المغرب لأنه كان يسمح لنفسه بالتحدث بهذا الفن.

وربما يرجع إلى تصريحه بأشعار العارفين التي تتحدث عن الحقائق وعن العقائد الخاصة للصوفية، فمثلا نذكر هذه الحادثة التي تحدث عنها تلميذه الشيخ بن عودة بن سليمان: فقال لي (المقصود بالضمير الشيخ العلاوي) ـ يقصد بن عودة بن سليمان ـ كنت أعرف أحد المشايخ يدعى سيدي حمو الشيخ شريف النسب، كان مهاجرا بناحية المغرب سنين، وعندما قدم تعلقت به جماعة، وقد كان تكلم في طريق القوم غير أن سلط الله عليه من يؤذيه، وتوجهت عليه الاعتراضات، أما الآن فهو كأحد الطلبة خاملا لا يرى عليه شيء من ذلك، وفي ظني أنه يكون ذلك الرجل ممن يعتمد عليه في طريق الله، حسبما دلت عليه سنة الله في خلقه، ما من مرشد ظهر إلا سلط الله عليه من يؤذيه"[15].


فالعارف بالله في هذه الحالة يستفيد الإذن بالتشرع وإخفاء التحقق وستره وهذا لا غرو مؤلم ومعذب لروح الصوفي. يحكي الشيخ البوزيدي عن هذه الحالة برواية تلميذه الشيخ العلاوي إذ حدثه استاذه قائلا: " كنت عندما قدمت من المغرب تكلمت بهذا الفن كما قد كنت تكلمت به من قبل، ولما واجهني الوجود بالاعتراض، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فأمرني بالسكوت، ومن ذلك العهد وأنا ساكت حتى كدت أن أحترق، وقبل اجتماعي بكم ـ يقصد اجتماعه بالعلاوي ومن معه من المريدين ـ رأيت كأن جمعا من الفقراء وما من واحد منهم إلا وسبحتي في عنقه، ولما فقت استفدت من الرؤيا ما يشعر بحركة في المستقبل، ولهذا قبلت منكم نشر الدعوة، وإلا لما تجاسرت أن آذن لكم في الإعلان. وفي هذه الأيام الأخيرة رأيت من يقول لي: تحدث ولا حرج"[16].

يظهر تمكن الشيخ البوزيدي في الشريعة من خلال حال الستر والخمول الذي داوم عليه مدة طويلة يحفظ الصبيان القرآن الكريم، وقدرته على السيطرة على أصحاب الأحوال والمستغرقين في التوحيد الخاص وهذه الخاصية برزت بشكل جلي عندما بدأ تلامذته ينضجون في السلوك وبدا يغلب عليهم حال الفناء والاستغراق، هنا استطاع الشيخ البوزيدي ان يسيرهم إلى الصحو بعد المحو والفرق بعد الجمع، وقد تحدث تلميذه الشيخ العلاوي عن بعض الحالات التي حدثت معه واستطاع التحكم فيها بفعل إرشاد شيخه البوزيدي.

يذكر الشيخ البوزيدي حادثة وقعت له قبيل وفاة شيخه الشيخ محمد بن قدور الوكيلي الكركري، الذي لم يفلح تلامذته في تلقينه التشهد نظرا لقوة حال الاستغراق في التوحيد عنده، وهنا تدخل الشيخ البوزيدي واستطاع بفعل قوة توازنه في التوحيد وتمكنه من العلمين علم الشريعة وعلم الحقيقة، يقول: "ثم انتقل إلى رحمة الله عز وجل وكنت أنا ممن أخذ وديعته فكان الفقراء جالسين حالة الاحتضار وأنا عند رأسه ولا يقدر أحد يتجاسر عليه بأن يكلمه في كلمة الإخلاص لعلمهم باستغراقه في التوحيد فتقدمت له أنا قائلا يا سيدي أتكلم معك من طريق الشرع فقال لي قل فقلت له لاإله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يده رضي الله عنه ومسح بها على وجهه وقال نحن وإياكم أجمعين إن شاء الله وعند منتهى الإسم الأعظم من قول إن شاء الله فاضت نفسه ثم دفن رضي الله عنه بمحله وزاويته الآن معلومة بكركر قرب عين زووة بالمغرب الأقصى وعندما انتقل رحمة الله عليه بقيت بزاويته امتثالا لأمره إلى أن أتممت ما أوصاني به ثم رجعت إلى مستغانم بنية المكث بأمر منه صراحة رضي الله عنه[17].

الإرشاد والتربية في الطريقة البوزيدية:

الشيخ والمريد
الشيخ والمريد

كان الشيخ البوزيدي يتمتع بثقة كبيرة في التربية والإرشاد، ويصرح بأنه مأذون الحضرة الإلهية لتقريب السالكين والدلالة على الله تعالى:
        اسمي راه شايع البوزيدي الخمار     ساقي كل واله     كؤوس الأسرار[18]

وكان من مميزات السلوك عنده أن من أخذ العهد عليه لايطول به الأمر حتى يحصل المطلوب، واعتبر الشيخ العلاوي، الشيخ البوزيدي أعجوبة الزمان، وخصوصية لم يجد بها الدهر إلا نادرا، بحيث يعبر عن طريقه بأنه اختصرها ولم تعد مثل الطريق قبله ونعني بها الطريقة الدرقاوية الشاذلية." أقول أن الخصوصية كانت تلوح عليه رضي الله عنه بحيث ينتفع به كل من انتمى إليه ولزمه في اقرب وقت حتى كان الناس يتعجبون مما يطرأ على يديه من الفتح القريب والسر العجيب الذي يظهر على تلامذته"[19] بل إن المعترضين ممن لم يحصلوا المطلوب وممن تعذر عليهم الفتح على يديه كانوا يشككون في الاستفادة منه فكان رده عليهم أن الامتناع منهم لا من الشيخ وكان يطالبهم فقط بالصحبة والصبر عليها، وكان يقول: " إن الطريق كانت طويلة وقد اختصرناها إلى أن صارت مقصورة على الانتساب وطرفا من المحبة[20].

وبما أن الشيخ البوزيدي انتسب إلى شيخه سيدي محمد بن قدور الوكيلي، فكان درقاويا شاذليا وهو استمر في تلقين الإسم الأعظم على هذا المسلك أي المسلك الشاذلي الدرقاوي. فالورد الذي اعتمده يكون بعد صلاة الصبح وبعد صلاة المغرب مباشرة. فبعد أخذ العهد من الشيخ بكيفية معلومة عند القوم، وهي أن يجلس المريد أمام المرشد جلوس العبد خافض الرأس جامعا همته حافضا لما يتلقاه من أستاذه ثم يضع الأستاذ يده اليمنى في يده ويذكر قوله تعالى واوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا" وقد استحسن الشيخ البوزيدي ذكر الصلاة على النبي عقب الآية، والصلاة التي اختارها الشيخ هي: اللّهم صل صلاة كاملة وسلم سلاما تاما على سيدنا محمد تنحل به العقد وتنفرج به الكرب وتقضى به الحوائج وتنال به الرغائب وحسن الخواتم ويستسقى الغمام بوجهه الكريم وعلى آله وصحبه في كل لمحة ونفس بعدد كل معلوم لك يا الله، يا الله، يا الله.

أما الورد فهو أن يتعوذ المريد والسالك من الشيطان الرجيم مرة واحدة ويعقبها بالبسملة الكاملة ثلاثا، ثم يقرأ الآية: " وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" ثم يقول استغفر الله مائة مرة. ثم يقول اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم وعند تمام المائة يقول وسلم تسليما. ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة ثم يقرأ سورة الإخلاص ثلاثا.

وعلى المريد حال الذكر أن يستحضر عناية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه هو الواسطة العظمى والمرشد الواحد وأن لا يد له مع يده عليه الصلاة والسلام هذا إن كان من أهل المقام وإلا ينبغي له أن يستحضر يد استاذه ثم يوصي المريد بتقوى الله وبالخصوص الصلاة في أوقاتها وعقبها الأوراد ثم يشتغل بتعليمه أو يكلف من يعلمه ما أهمه من أمور دينه.

" وأما تلقين الاسم الأعظم فهو مغاير لتلقين الأوراد إذ لا يؤذن فيه إلا من كان متحققا بالحقيقة الذاتية وعند تلقينه يكون مستغرقا في العظمة الإلهية حتى يصير الحق عز وجل هو الظاهر فيه ومن هنا خطاب الله لصاحب هذا المقام عليه الصلاة والسلام " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله " فإذا أخذ المريد الاسم بهذه الكيفية وذكره حسب ما أمر به فالغالب يكون من أهله وعلى هذه الكيفية أخذناه وأمرنا به على يد مشائخنا الكرام خلفا عن سلف إلى حد أن اتصلنا برسول الله صلى الله عليه وسلم"[21]

أما السير الغالب الذي كان يعتمده الشيخ البوزيدي، "فهو أن يكلف المريد بذكر الاسم المفرد مع تشخيص حروفه، حتى ترتسم الحروف في مخيلته، ثم يأمره ببسطها وتعظيمها إلى أن تملأ الحروف ما بين الخافقين، ويديم الذكر على تلك الهيئة إلى أن تنقلب صفاتها إلى شبه النور، ثم يشير له بالخروج عن هذا المظهر بكيفية يتعذر التصريح بها، فينتهي روح المريد بسرعة مع تلك الإشارة إلى خارج الكون ما لم يكن المريد قليل الاستعداد، وإلا احتيج إلى تصفية وترويض، وعند تلك الإشارة يقع للمريد التمييز بين الإطلاق والتقييد، ويظهر له هذا الوجود مثل الكرة أو القنديل، معلقا في فراغ معدوم البداية والنهاية، ثم يصير يضعف في نظره مع ملازمة الذكر ومصاحبة الفكر، إلى أن يصير اثرا بعد عين، ثم يصير لا اثر ولا عين، ويبقى على تلك الحالة حتى يستغرق المريد في عالم الإطلاق. ويتمكن يقينه من ذلك النور المجرد، والشيخ في جميع ذلك يتعاهده ويسأله عن أحواله، ويقويه على الذكر حسب المراتب، حتى ينتهي إلى غاية يشعر بها المريد من نفسه ولا يكتفي منه إلا بذلك. وكان رضي الله عنه دائما يذكر قوله تعالى: ويتلوه شاهد منه" فإذا تمت غاية المريد في هذا المشهد حسب المشارب من قوة وضعف، فيرجع به إلى عالم الشهادة..."[22]

        ادخل حضرة الصفا أهل الجود والوفا      واتبع نهج المصطفى ومراعاة الحدود
        اذكر ذكر اللسان بتغميض العينين          وامح جمع الأكوان في جمال المعبود
        أذكره ذكر القلب ذا مقام أهل الشرب       تعلم جميع الغيب تصير لك الشهود
        اذكره ذكر السر بعده سر السر ذا مقام     السكر تم لك المقصود (ص 123)
        وتضحى للبقاء بعد فنا الفناء تصير         من الأولياء أهل السر الموجود[23]

[1] الأنوار القدسية، ص 22.
[2] أحمد بن مصطفى العلاوي،المواد الغيثية الناشئة عن الحكم الغوثية، ج1، ص 196.
[3] برهان الخصوصية ص ص 5-6.
[4] الأنوار القدسية، ص 39.
[5] برهان الخصوصية، ص 3.
[6] برهان الخصوصية ص ص 4-5-6.
[7] أحمد بن مصطفى العلاوي، المطبعة العلاوية بمستغانم، ط1، 1994، ص 28.
الديوان، ص 124.[8]
[9] الديوان، ص 120.
[10] برهان الخصوصية، ص 31.
[11] الأنوار القدسية ص 53.
[12] برهان الخصوصية، ص 10.
[13] برهان الخصوصية، ص 11- 12.
[14] الديوان، ص 133
[15] عدة بن تونس، الروضة السنية في المآثر العلاوية، المطبعة العلاوية بمستغانم، ط2، 1987، ص 23
[17] أحمد بن مصطفى العلاوي، برهان الخصوصية في الطريق البوزيدية، ص ص 7-8.
[18] الديوان، ص 126.
[19] الأنوار القدسية، ص 9.
[20] الأنوار القدسية، ص 9.
[21] برهان الخصوصية، ص 24.
[22] الروضة النية في المآثر العلاوية، ص ص 25-26.
[23] الديوان ، ص ص 123-124.
تعليقات