الشيخ البوزيدي والتوحيد الخاص:
كان الشيخ البوزيدي كاستاذه في أحواله والأمر نفسه وقع لتلميذه بعده وهو الشيخ العلاوي خصوصا، فهؤلاء العارفين كانوا مشهورين بكثرة استغراقهم في التوحيد وأحواله، فمثلا يحكي الشيخ العلاوي عن أستاذه وميزته العرفانية فيقول: كان " كثير الاستغراق في فن التوحيد على طريق الخصوصية، لا يرضى أن يتلفظ بالغيرية وكل ما فيه رائحة التقييد. وكان في بعض الأوقات يقول فاين (فأين) العبيد فإني لا أرى في الوجود إلا الواحد ثم يتلو هذه الآيات: " هو الأول والآخر والظاهر والباطن. فأينما تولوا فثم وجه الله. ثم يقول الله الله لا وجود مع وجود الله كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان وكان ينفر من كلام لا يفيد الاستغراق في هذا الفن وكان يقول ليس لي من العلم إلا ذكر الله ومعرفة الله عز وجل وكان يقول من لم يعرف الله على طريقة الشهود والعيان فهو مغرور كائنا من كان."[1]، وكان فعله الثابت في حياته ذكر الله تعالى والتذكير به بحيث لا تخلو مجالسه من الذكر والتذكير بالله بحيث يصبح أي مذكور دون الله بمثابة قطيعة مع الله تعالى، يقول عنه الشيخ العلاوي: " ولا يبرهن في مجلسه إلا على فضل ذكر الله ومعرفة الله الخاصة وكان كثير ما يحلو له من اشعار العارفين ويكثر ذكره قول سيدي أبي مدين التلمساني رضي الله عنه:
يذكر الشيخ العلاوي قصة عجيبة حدثت له مع شيخه، وفيها يميز خصوصه، وهذه القصة تبرز حال الذكر ومقام التوحيد الذي تصدر عنه كل أفعال العارف بالله، وأحواله،يقول: " كان شيخنا سيدي محمد البوزيدي رضي الله عنه كثيرا ما يقول إذا أصابه ألم: جلالي من جمالي، وتراه مبسوطا ينبع بالحكمة أكثر مما يكون عليه حالة الجمال، ومن العجب أننا قصدناه يوما وكان أصابه ألم عدم فيه يدا ورجلا تعطلتا عن الحركة فكنا نتأسف له، فلما تكلم قال لنا: لم أجد عبارة منذ دخلت الطريق أفصح من هذه العبارة، كنت هذه الليلة المباركة نائما ولما استيقظت مسست هذه اليد المعدومة الحركة باليد المتحركة فوجدتها كأنها زائدة علي، لم نحس بها لأنها ميتت فظننت أنها يد أجنبية فناديت على أهل البيت أن يوقدوا لنا المصباح قائلا أن الحي معنا وأنني قابض عليه فلما أوقدوا المصباح وجدت يدي قابضة على يدي ولا حي معي ولا شيء زائد علي فقلت سبحان الله هذا مثال الوهم الواقع للمريد قبل معرفته لله"[3]
خمرة السكر وليلى العشق:
يسستعمل الصوفية في أدبياتهم مصطلح الخمرة للتعبير عن التوحيد العياني الذي لا يتميز فيه العبد عن ربه فيفقد شعوره بنفسه نتيجة شرب هذه الخمرة المزلزلة للأنا الصوفية، وتميز هذه الخمرة بكونها غير مصنوعة من مخلوق ولم تعصرها يد مخلوق، فهي أزلية منزهة من كل نقص، ومن شرب منها يتغير شعوره ويفقد وعيه بنفسه، ويحدث له جذب وسكر لا يعادله أي سكر، فحتى السكرارنين بحب الدنيا وملذاتها لا يمكنهم ذوقها ولا فهم حقيقتها فقط من غيبته هذه الخمر وتيهته عن ذاه فيصير لا يرى في الوجود غيرها، فيصبح كل الوجود سكر، وفي دوران سرمدي حول فلك وجود هذه الخمرة، ويعبر كذلك عن الكون بالكأس باعتباره وعاء لتجلي المعاني الإلهية، " فالمراد بالكأس هو البشرية الحاملة سر الألوهية، أما الخمرة عبارة عن الروحانية وفي هذا المعنى قال سلطان العاشقين سيدي عمر ابن الفارض رضي الله عنه: أرواحنا خمر واشباحنا كرم" [1].
ها هي بدت على الكيزان يا عاشقا لها شذاها فاح
كانت قبل كون الأكوان خمرة مجردة عن الأقداح
هذه خمرة المعاني للعاشقين نورها لاح
مظاهر الكون كيزان والخميرة عبارة عن الأرواح
في إطار هذه الوحدة لا تتميز الخمرة الإلهية من شاربها، فيرى خمرته صادرة منه غير منفكة عنه كعدم تميز الخمرة من الكأس الصافية فمن يرى الكأس يرى الخمر، وفي هذا رمزية الوساطة الوجودية التي يشغلها العارف بالله بعد فنائه عن كل السوى، فيصير من يطلب الخمرة يطلب الكأس التي تعيها، طبعا مع تحول وجودي يطرأ على الكأس كأنه خمر ولا كأس، لذا تجد العارفين بالله والشيوخ الساقين لهذه الخمر لا يرون فصلا في الوجود بل كله وصل ومن هذا السر يتم السقي الذي يعبر عن الدلالة على الله والإيصال إليه.
شرابي لي مني وسري في الأواني حاشا يكون الثاني أنا الشارب المشروبأنا الذي ظهرت خمرتي مني فاضت والأشياء بي قامت أنا رافع الحجب
ناداني من كل مكان اصدع وبشر الإخوان بالقرب مع الأمان اللي يتبعك محبوب
هذا التحول الوجودي الذي يحدث للسالك بعد شرب الخمرة الأزلية، ليس معناه انقلابا للحقيقة الوجودية للمكن من حال الإمكان إلى حال الوجوب، لأن الوجود واحد وحدة حقيقية، فلا ثاني ولا كثرة فيه، فالتحول الذي يحدث للسالك هو خروج عن وهم وجوده وشعوره باستقلاله، إذ كما ينقل عن رابعة العدوية قولها:" وجودك ذنب لا يقاس به ذنب".
فعندما يشرب من هذه الخمرة ويذوق كاس الشراب وذلك من خلال الاستغراق بالذكر وفيه، مع حصول انجذاب ذاتي إلى الله بفعل السكر يحدث له تحقق ينكشف له أن الوجود واحد وتتحول رؤيته للعالم فلا يرى له وجودا أصلا، بل وجوده كوجود السراب، ويصير وجوده وجودا برزخيا لا استقلال له ولا عدمية له، فهو بين وبين كالخيال.
خمر المعنى يا حافظ معناه منه شربوا السادة الكرامحتى سكروا به وتاهوا وغابوا عن جميع الأنام
يا مريد الدخول حضرة مولاه ويحي دائما على الدوام
فليخضع في القول وأفعاله ينال برضاه أعلى المقام
حتى لا يرى في الكون سواه سبحانه ذو الجلال والإكرام
ويفنى حقا في ذات مولاه فناء صرفا يا حافظ النظام
ويبقى بالحق لا بهواه يصير برزخا بين أبحر عظام
وينظر للعرش وما فوقه وما تحت الثرى بلا أوهام
هذا بحر عميق فيه تاهوا رجال الطريق وأقطاب الإسلام
شربنا منه ومن عذباه حتى صارت الأواني مدام
بأرواحنا تهنا في فضاه وحرنا في العظمة بلا أجسام[6]
أنا عين للتحقيق يا من تطلب رؤيتي أنا منهاج الطريق والكون في قبضتيالكون كسراب كما جاء في الآية هباء في هواء عند أهل الحقيقة
من بحار الجبروت قد ظهرت نقطتي تلونت بالناسوت وسر الملكوت
مريدي لك البشرى احفظ لي وصيتي تأدب مع الفقرا لتسقى من خمرتي
مريدي كونن حفيظ حدود الشريعة تمسك بها تفد كمال الحقيقة
يا خليلي قل الله وحده في الكثرة لا تر ما سوى الله في كل كائنة[7]
هذه الخمرة تيهت الأنبياء قبل أن يتيه بها العارفون بالله، وكان منبع خصوصيتهم فبقطرة منها خرجت عصا موسى عن طورها وبشربها نطق عيسى عليه السلام في المهد وهكذا كل نبي صدر منه أثرها مخرجا إياه من البشرية إلى الروحانية التي أذهلت كل من رأى هؤلاء الأنبياء عليه السلام:
خمرتنا فاضت بالكأس امتزجت لما تعاظمت غيبت القداحنارت واستنارت عظمت وانتشرت كثرت واتحدت ذي الخمرة يا صاح
داوود بها غنى بالزبور حنى نوح بها كان كثير الأنواح
عيسى بها نطق في المهد تحقق بهذا يا عاشق كان من السواح
عشاقها هاجوا بالوجد وماجوا كلهم خرجوا من سجن الأشباح
أنوارها سطعت من ذاتي ظهرت شمسها طلعت في سماء الأرواح
والإذن قد أتى والأمر يا فتى لنفسي من أتى عن قطب الفلاح
أتى الإذن ساطع إقدم يا منازع ترى الأمر واقع ما بين الملاح
...
فمن نظر نظمي ما يبقى وهم ومن عرف اسمي يبشر بالأرباح
لما شرب موسى خمرة الكؤوس فلق بالعصا وكسر الألواح[8]
والشيخ الكامل هو الذي يتحقق بالخمار وساقي الشراب بفعل برزخيته ووسطيته التي تضمن انتقال سر السكر وروح الشراب من الخمرة الأزلية إلى طالبها وهو المريد:
أبي وجدي ابن البوزيدي من فرع الهادي ابن عبد الله[9]
اسمي ساقي المريد محمد بن البوزيد نغرف من بحر التوحيد وبيدي المنشور[10]
يقابل مصطلح السكر والصحو ومصطلح الفناء والبقاء، ومصطلح المحبة والعشق الإلهي، وهذه رموز نعكس فيها مواجيد التوحيد والانتقال من الشرك إلى التوحيد وهي كذلك تعبر عن مسالك المريد من أرض الغفلة عن الله إلى أرض الذكر بل وبحر السكر والغرق فيه، وكثيرا ما يستعمل العارفون اسم ليلى للتعبير عن التتيم في ذات الله تعالى والتتيم في ذات سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
هذي ليلى قد بدت بالحسن تلونت لبعضها ظهرت وبطنت في الظهور[11]
فيا طالب الهوى والغيبة عن السوى أنا صاحب الدواء أنا الطبيب المشهور
أنا صاحب الطريق وأنت مظهر التحقيق اشرب خمرتي تفيق والسر منك يفور
فوالله من دنا وذاق سر الفنا لباح بما بحنا قهرا وهو المعذور
فوالله لو قلنا إليهم ما علمنا قليلا من صدقنا إلا الخواص أهل النور[12]
تصير أنت الكل عنه لا تغفل الفوق والأسفل منك تجلى
هذا هو قصدي وله نهدي من أتى عندي يرى الجمالا
أنا هو الخمار ساقي الأبرار كؤوس الأسرار نور الجلالا
أبي وجدي ابن البوزيدي من فرع الهادي ابن عبد الله[13]
نطقت بصوتها وغيبتني فيها سقتني بحبها فيها غيبة الوجود
ظهرت بحسنها ومزقت سترها عمتني بنورها ولم يبق لي وجود[14]
يا لائمي لا تلم امهل عليا لا شك تعذرني لو تعلم خبياتي
الحب أفناني وملكني راعيا ما لي طاقة لكتم الحقيقة
أنا العاشق والعشق مني إليا أنا الحبيب وقصدي أهل المحبة
هب نسيمي من علاه شرح لي صدري به دامت حياتي
وانفتقت أسرار كانت رتقيا ونارت الأكوان من حبي ونشوتي
أهلا وسهلا بطلعة الثريا مرحبا مرحبا بالعامرية
سمعت نداء تعرضت إليا وقالت يا عاشق تجرد لزورتي
أنقذتني من قيودي الواهيا وأجلستني في أعلى المقامات[15]
البوزيدي وعلاج مرض السوى والغيرية:
يصطلح على شيخ التربية مصطلح الطبيب الذي يعالج الأدواء ولعل أهم داء ابتليت به الإنسانية هو داء حب الذات وإيثارها مما منع كل معنوية قد تفتح باب السعادة عليها وتتركها في هيام وجودي لا ترام أية لذة معه، والشيخ البوزيدي لم يفتأ يصرح وينوح في الناس من خلال أشعاره وسلوكياته وأناشيده، داعيا الناس وكل من سمعه للإقبال على طبه حتى يخلصهم من امراضهم، ولعل أهم مرض هو الأنانية والغفلة عن الحقيقة الإنسانية التي لا ينفصل وجودها عن الإطلاق من حيث الحقيقة.
غص فيمن تهوى بالقلب والروح معه غب في غيب الغيب تغب عما سواه
إذا ذكرته بالجد ترى ما تراه كل ما تهواه موجود في ذات الله
كن فاني عنك موجود به وله تصر باقي به محفوف بلطف الله
زل منك عنك لتبقى ببقاه إذا تحيد نفسك ما تجد إلا الله
إذا قيل لك من تهوى قل الله أنا به والله مشغوف بحب الله
من هو قريب لذاتي محال قلبي ينساه قريب مني لي والقرب خفي معناه
إذا عرفت المعنى في الحس لاحظ سناه فالكل قائم به موجود بمن تهواه[16]
إذا كان السقم هو حب الذات والأنانية فإن الطب الذي يكتبه البوزيدي للمريض هو رؤية حقيقة ذاته وانكشاف الأمر على ما هو عليه بأن الإنسانية ذات حقيقة قابلة للإطلاق وتتسع لكل الوجود ولا يحويها وعاء غير وعاء الذات الإلهية وهذه المعاني تجدها الإنسانية في أطوار العلاج من خلال الفناء والبقاء وشهود الوحدانية سارية في الكل، وهذه الرؤية تخرج صاحبها من ضيق الوجود وحقارة الموجود الأنا إلى سعة الوجود والامتلاء به، بل يجد السالك أن وجوده يسع العرش والفلك والسماوات والأرضين، وهي حقيقة لا يمكن الكشف عنها بالفكر واللغة إلا إذا اعتبرناها مجازا، بينما عند أهل الذوق من الصوفية فإن هذه الأمور هي فعلية ولا مجال للمجاز فيها، فإن سبب كونها مجازا هو حالة الغفلة التي تميز الغافلين والمعتمدين على أفكارهم وأوهامهم وحواسهم، فهذا الأدوات ليس بإمكانها النفوذ غلى المعاني الحقيقية التي يبشر بها طب الشيوخ المربين.
والعرش المتسع والشمس والأقمار في قلبي يا سامع موجة في البحار
....
والساجد والراكع في الليل والسحار في رضاي طامع ورفع الأستار
والعاصي والطايع في الموت والمحشر ملجؤه راجع لي بلا إنكار
ولازم آداب البر في البحر إن همت وكن قائما بالعدل في الخير والشر
هذا مني واقع كل وقت وأعصار ومن فيه يشانع هو في الأكدار[17]
وقم بميزان العلم في كل ما قمت إلا أن علم الحال خير على خير[18]
"أخذ ذات يوم يحقق النظر في ثم قال للمقدم المذكور ـــــــ يقصد سيدي بن عودة بن سليمان ـــــــ إن الولد صالح للتربية... وفي مرة أخرى وجد بيدي ورقة فيها ما يتعلق بمدح الشيخ سيدي محمد بن عيسى رضي الله عنه وبعدما نظرها قال لي: إن دامت بنا الحياة تكون إن شاء الله من أشباه الشيخ سيدي محمد بن عيسى أو تكون في مقامه"[19].
" كان أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه يقول: مالي وصحبة الأميين، والله لقد صحبنا رجالا، لو نظر أحدهم إلى شجرة يابسة لأثمرت من حينها. نعم فقد تلاقينا بمثل ما ذكر الشيخ. فكان أستاذنا الشيخ سيدي محمد البوزيدي رضي الله عنه ليس بينه وبين المريد إلا أن يرضى عليه. فقد لاقيناه وليس فينا من قابلية الطريق إلا مجرد المحبة. فما مرت علينا أيام إلا وصرنا في مقام يعجز عن وصفه بدون استعداد لذلك، وقلت له مرة جزاك الله خيرا يا سيدي فإنك أكرمتنا بما لسنا له أهلا. فقال لي: أنتم جزاكم الله خيرا حيث أتيتمونا. فوالله لو تلاقينا بمن لا يحسن الشهادة لعلمناه بما علمناكم بدون شعور"[20]
على من بيده سر الخصوصية أن يفيض عليه (المريد) من ينابيع التوحيد وينقذه من رق الأثر إلى شهود المؤثر فيصير حينئذ حرا وعلى الله أجره"[21]
اكتب تعليقا يدعم التدوينة ويساعدنا لتطوير خبرتنا